أحاديث "الثورة الثانية" في تونس: إضرابات "عفوية" وارتباك حكومي


بدا المشهد التونسي في الأسابيع الأخيرة، وكأنه يستعد للعودة إلى الأشهر التي تلت مغادرة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي البلاد والسلطة. أجواء تشي بوجود أزمات اجتماعية وسياسية، إلى حدّ دفعت بالأمين العام لاتحاد الشغل حسين العباسي، إلى الحديث عن احتمال إعلان "ثورة ثانية". تشبه الحالة السائدة زواجاً مهدداً بالانتكاسة خلال مرحلة شهر العسل؛ إذ إن جهة قفصة لم تهدأ بعد، وهي ليست الوحيدة التي تشهد احتجاجات اجتماعية متجددة.

أصبحت قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل أكثر قلقاً وهي تتابع النسق التصاعدي لهذه الموجة الجديدة من الغضب الاجتماعي. ويعود قلق قيادة الاتحاد إلى العفوية التي بدأت تهيمن على الكوادر النقابية، بحيث تجاوز العديد منها القوانين المنظمة للعمل النقابي، ولم يتقيد بالترتيبات التي يجب أن يخضع لها الإضراب. وخلال الأيام الماضية، تعددت الإضرابات المفاجئة، التي نفذت بلا إعلام مؤسسات العمل، أو التنسيق الضروري مع المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل من أجل الحصول على الموافقة قبل الشروع في الإضراب. ويعتبر هذا من المؤشرات الخطيرة التي يمكن أن تنسف النشاط النقابي وتسحب منه الغطاء القانوني، وتحوله إلى عامل مهدد وخطير للاقتصاد والدولة. وهو ما جعل قيادة الاتحاد تعلن نيتها التصدي لهذه الظاهرة التي بدأت تعم مؤسسات استراتيجية في البلاد مثل السكك الحديدية والشركة التونسية للكهرباء والغاز. وأصدرت قيادة الاتحاد بيانا شديد اللهجة، للتأكيد على أنها لا تؤيد هذا السلوك غير القانوني، معلنة أنها ستعاقب من يقومون به من المسؤولين النقابيين. 

هذا الحراك الاحتجاجي يحصل في ظل حكومة ائتلافية جمعت أهم الأحزاب التي حصدت في الانتخابات التشريعية الأخيرة أكثر مقاعد البرلمان. وهي "نداء تونس" وحركة "النهضة"، إضافة إلى "الاتحاد الوطني الحر" و "آفاق تونس". وهو ما جعل هذه الحكومة التي يقودها الحبيب الصيد تتمتع بغالبية مريحة داخل مجلس نواب الشعب، ولكن بدل أن تحظى بدعم شعبي واسع بفضل وزنها السياسي، تجد نفسها أمام حالة احتقان اجتماعي تربكها وتدخلها في دوامة. وشعرت الأحزاب المشكِّلة للحكومة بالحاجة إلى التضامن فيما بينها، ولهذا عملت، وإن متأخرة، على إنشاء هيئة تنسيق لدعم الحكومة، غير أن ذلك لا يزال في مستوى الخطاب ولم يترجم إلى تحرك ميداني لتصحيح العلاقة بين المواطنين والحكومة.

الملاحظة الثانية، أنه عادة ما يحصل احتجاج اجتماعي، تضطر خلاله الحكومات إلى الدخول في مفاوضات مع النقابات، وبعد أخذ ورد يتم التوصل إلى اتفاق يفترض فيه أن يكون مقبولا من جميع الأطراف. لكن ما حصل في تونس خلال الفترة الأخيرة جاء مناقضا لهذه القاعدة. إذ بالرغم من الإعلان عن زيادات في الأجور بالنسبة للعاملين في القطاع العام، عادت المطلبية لتفرض نفسها من جديد داخل مؤسسات القطاع العام. وهو ما يدفع إلى السؤال التالي: من يقف وراء ذلك؟ وما هي مصلحته من عملية التصعيد؟ 

في ظل هذه الأجواء، اتهمت قيادة الاتحاد التونسي للشغل أطرافاً سياسية خسرت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بالوقوف وراء تصعيد وتيرة الإضرابات والاعتصامات خلال الفترة الأخيرة. ولم يصدر هذا الاتهام عن أعضاء بالمكتب التنفيذي لاتحاد الشغل فقط، وإنما روجت له أطراف أخرى حزبية وغير حزبية. وعندما شعرت حركة "النهضة" بأنها المقصودة، رد على ذلك رئيس الحركة راشد الغنوشي بقوله إنّ "الاتهامات الموجّهة للحركة بتوتير الأوضاع الاجتماعية هي تهرب من المسؤولية. هناك جهات تسعى إلى إشعال النار وتتساءل في الوقت نفسه عن مصدر الدخان"، وهو ما أتبعه الغنوشي بدعوة المضربين في كافة القطاعات لـ"العودة إلى العمل".

لكن في جميع الأحوال، فإن الحكومة أمام تحدّي إقناع التونسيين بأدائها؛ فالخطاب الإعلامي للحكومة ضعيف ويتم بنسق بطيء في مرحلة حرجة، لا تقبل التسويف أو التواصل المتقطع بين صاحب القرار من جهة، وبين المتلقي وهو المواطن الواقف على الجمر، من جهة ثانية. مع ذلك، فإن معضلة الحكومة لا تقف عند إشكالية التواصل مع الرأي العام، وإنما أيضاً في ضرورة اتخاذ إجراءات أكثر جرأة في عديد القطاعات الحيوية.

من جهة ثانية، فإن ارتفاع نسق الإضرابات والاعتصامات، خصوصاً في القطاعات الاستراتيجية، سيُضعف الاقتصاد ويربك عملية إنتاج الثورة. وقد شعر الكثير من التونسيين بالخطر عندما كشفت المصادر الرسمية عن أن نسبة النمو قد انخفضت خلال الثلاثية الأخيرة من السنة الجارية 2015، إلى حدود 1.7 في المائة . ويعود ذلك إلى موجة الإضرابات من جهة، وإلى انهيار قيمة العمل بشكل غير مسبوق، من جهة ثانية. وعندما يصاب اقتصاد ما بهاتين العلتين لن تقوم له قائمة، خصوصاً أن كبريات المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها البنك الدولي، قد رفعت من سقف ضغوطها على تونس من أجل دفعها نحو إنجاز "الإصلاحات" المطلوبة خلال الأشهر المتبقية من هذه السنة، لأنه في حال عدم إنجاز ذلك، فإن المساعدات المالية قد تتوقف، ونية الاستثمار في تونس قد تزداد انكماشاً.



كاتب المقالة :
تاريخ النشر : 25/05/2015
من موقع : موقع الشيخ محمد فرج الأصفر
رابط الموقع : www.mohammdfarag.com