موقع الشيخ محمد فرج الأصفر || انقلاب تركيا والأبعاد الدينية
اسم المقالة : انقلاب تركيا والأبعاد الدينية
كاتب المقالة : د. ليلى بيومي

جاء الانقلاب الفاشل في تركيا ليكشف ويؤكد العديد من الأمور سواء بالنسبة للدول الغربية أو للنخبة الفاسدة المزيفة في عالمنا العربي.

فمع ساعات الانقلاب الأولى والتي صدر فيها أول بيان للانقلاب استبشرت الولايات المتحدة الأمريكية خيرًا، ثم مع انكشاف الأمور شيئًا فشيئًا ومع هزيمة الانقلاب، بدأت واشنطن تتحدث عن دعمها للحكومة المنتخبة في تركيا، وهذا عين التناقض، فالقوم كانوا يستبشرون خيرًا بأن يسقط أردوغان ونظامه السياسي، بتوجهاته الإسلامية، ولتذهب إلى الجحيم قيمة أنه جاء عبر عملية ديمقراطية سليمة وعبر انتخاب شعبي، وأن الانقلابيين جاءوا فوق الدبابات وأن وجودهم إنما هو تدمير للعملية السياسية بل لمختلف جوانب الحياة في تركيا.

يصدع الغرب عمومًا رءوسنا بمعاني الديمقراطية وبحتمية الديمقراطية وبأنه راعي الديمقراطية في العالم، ولكن حينما يتعلق الأمور بأحداث تجري خارج البلدان الغربية ينسى الغرب قيمه ودعاواه ومبادئه، ونراه يجري وراء تدعيم الديكتاتورية ومساندة الانقلابات العسكرية، التي عادة ما تسهر على تحقيق أكبر لمصالحه وتنبطح أمام الأوامر الغربية حتى ولو كانت ضد مصالح الدول غير الغربية (صاحبة الشأن)، ويقف الغرب بشدة ضد أية عملية تحول ديمقراطي حقيقي خارج بلدانه، لأن ذلك عادة ما يأتي بحكومة تسعى إلى الاستقلال والتحرر الوطني وتدعو إلى التنمية الحقيقية، والغرب لا يريد ذلك، ولكن يريد حكومات عميلة وتابعة تنفذ إملاءاته، وتكون سوقًا لتصريف منتجاته.

لقد عبر رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون عن أمر شديد الأهمية، فقال قال بخصوص إمكانية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي: إن ذلك يمكن أن يحدث عام 3000، بمعنى أن هذا الأمر لن يحدث أبدًا.

وإذا كان الغرب يقف ضد الديمقراطية خارج دياره بشكل عام ويدعم الانقلابات العسكرية التي تحقق مصالحه، فإنه في الحالة التركية تكون الأمور أكثر حساسية، ويكون الغرب حريًا بشكل أكبر على تشجيع كل ما من شأنه أن تبقى تركيا متعثرة تعاني اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا.

ويبدو أن الأمر يعود إلى أسباب دينية وعقائدية صرفة، وليس صحيحًا أن الصراع بين القوى الدولية صراع اقتصادي فقط، بل هو صراع ثقافي عقائدي ديني بامتياز، والغرب إنما يقف ضد تركيا ومصالحها وضد انضمامها للاتحاد الأوروبي لأسباب دينية فقط ولأنها بلد إسلامي بثقافة إسلامية وبتاريخ إسلامي وبقيم إسلامية غير قيم الأوروبيين واتحادهم الأوروبي.

إن محادثات تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي بدأت في عام 2005، وبعد مرور هذه السنوات يبدو الأمل شبه مستحيل، فأوروبا تفاوض تركيا بشأن 33 فصلا تتعلق بالخطوات الإصلاحية التي ينبغي أن تقوم بها، والتي تهدف إلى تلبية المعايير الأوروبية في جميع مجالات الحياة، تمهيدا للحصول على عضوية تامة في منظومة الاتحاد الأوروبي.

تركيا من ناحيتها غيرت كثير من قوانينها لكي تتلاءم مع معايير الاتحاد الأوروبي لكن القوم لا يرون أن ذلك كاف فهم يريدون المزيد والمزيد إلى ما لا نهاية، الأمر الوحيد الذي إذا فعلته تركيا سيقبلها الاتحاد الأوروبي فورًا هو أن تتخلى عن إسلامها وتعتنق النصرانية، فأوروبا تنظر إلى عضوية تركيا المسلمة في الاتحاد الأوروبي على أنها تهديد لهويتها المسيحية، رغم أن الاتحاد الأوروبي نشأ كتجمع اقتصادي في المقام الأول.

وصدق الله العظيم القائل: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} البقرة: الآية 120.

وكما يقول سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية في ظلال القرآن: (فتلك هي العلة الأصيلة. ليس الذي ينقصهم هو البرهان; وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك على الحق, وأن الذي جاءك من ربك الحق. ولو قدمت إليهم ما قدمت, ولو توددت إليهم ما توددت، لن يرضيهم من هذا كله شيء, إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق. إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان، إنها هي العقيدة، هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة، إنها معركة العقيدة هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما; وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها, ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين!.

إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها، ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى, ويرفعان عليها أعلاما شتى, في خبث ومكر وتورية) انتهى.

لقد كان الأمر مخزيًا في ليلة الانقلاب، عندما صمتت الدول الغربية كلها ورفضت إدانة الانقلاب، فقد كانوا ينتظرون النهاية السعيدة التي يرونها وهي نجاح الانقلاب وزوال غمة أردوغان ومن معه، ولكن بعد مرور ست ساعات كاملة وبعدما اتضح للجميع أن الانقلاب يترنح فعلا وأن القيادة الشرعية لتركيا تستعيد الإمساك بزمام الأمور، بعدها خرج التصريح الخجول من الرئيس الأمريكي باراك أوباما يطالب باحترام الحكومة الشرعية المنتخبة.

الأكثر فجاجة من ذلك هو أنه بعد أن انتصرت الشرعية انتصارًا حاسمًا لاشك فيه، بدأت التصريحات الحزينة للزعماء والمسئولين الغربيين تتوالى بحماية مصير الانقلابيين والتعامل معهم برأفة، وضمان حقوق الإنسان، وضمان عدم الاعتداء على الديمقراطية التركية، ونسوا تمامًا إدانة الانقلاب العسكري والتحذير من مغبته ونتائجه المشئومة والإشادة بالشرعية التركية وبنجاحها، بل نسوا العشرات من الشعب التركي الذين ماتوا برصاص الانقلابيين وتحت جنازير دباباتهم وبقنابل طائراتهم. كل هذه الأمور تكشف عن مدى مرارة الغربيين من فشل الانقلاب ومدى الحرقة والألم الذي أصابهم لعدم نجاحه.

الغربيون يعلمون أن تركيا في زمن "حزب العدالة والتنمية" وتحت زعامة أردوغان أحيت الميراث القديم حيث انفتحت على جوارها العربي متذكرة الزمن الذي كانت فيه هي وجوارها العربي جسدًا واحدًا، قبل أن يعمل فيه المستعمرون الغربيون معاولهم فيمزقوه تمزيقًا، ويورثوا الأجيال التالية كيانات هزيلة تسمى دولاً.

خلال الفترة التي نتحدث عنها نشطت التجارة بين تركيا وجوارها العربي، ولما هبت نسائم الربيع العربي وقفت تركيا مع الشعوب، وأيدت تطلعاتها نحو الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية، كما وقفت تركيا الجديدة مع فلسطين، وساهمت بكافة الوسائل الممكنة إلى تخفيف الحصار المفروض على الفلسطينيين مما أغاظ الصهاينة والغربيين بل والعرب الذين يتعاونون معهم.

لكن الأقبح من الموقف الغربي هو موقف النخبة العربية الفاسدة والمزيفة، التي أيدت الانقلاب العسكري وتمنت نجاحه وأصابها الإحباط حينما فشل، في تصادم وتناقض واضح مع مقولات القوم ومبادئهم التي تتردد طوال الليل والنهار عن الديمقراطية والعدالة والحريات العامة، فالمعيار عند النخبة المزيفة إنما هو معيار انتقائي، فإذا كان النصر للمسلمين أصابهم الهم والغم، وإن أصاب الإسلام قرح تهللوا واستبشروا وتبجحوا .. فلله الأمر من قبل ومن بعد.

تاريخ الاضافة: 25/07/2016
طباعة